
“الضحية الصامتة”.. حين يتحول الفضاء الرقمي إلى فخ للإيذاء النفسي
في عيادة صغيرة بمخيم في شمال إدلب، كانت “سارة” (اسم مستعار) تجلس شاحبة الوجه، تنظر إلى الأرض بصمت ثقيل، لا تُخبر ملامحها إلا عن وجع طويل. لم تكن تنتظر علاجاً جسدياً، بل كانت تحاول النجاة من ألم آخر أكثر تعقيداً ألا وهو العنف الرقمي.
روت والدتها، التي رافقتها إلى الجلسة النفسية، أن “سارة” تعرضت لابتزاز إلكتروني بعد أن قام أحد أقارب زوجها بإرسال رابط احتيالي، استدرجها لفتحه. الرابط كان مدخلاً لاختراق هاتفها وسرقة صور خاصة، تحولت لاحقًا إلى أداة تهديد، استخدم الجاني الصور ليبتزها وادعى زورًا أن هناك علاقة قائمة بينهما سابقا، حاولت إقناعه بالتراجع، لكن الخوف من الفضيحة في مجتمع لا يرحم، دفعها للصمت ومحاولة الانتحار لاحقًا.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ اضطرّت للخروج معه تحت التهديد، وهناك تم تصويرها خلسة، لتُضاف أدلة جديدة إلى ترسانة الابتزاز. تقول: “كنت مرعوبة من فقدان أطفالي، من أن يهجرني زوجي، من أن تُقتل سمعتي، فلم أجرؤ على إخبار أحد”.
هذه ليست حالة فردية، بل نموذج متكرر لانتهاك رقمي يستهدف نساء في مجتمعات مغلقة، حيث يكون الشرف مسألة حياة أو موت. تقول الأخصائية النفسية “ليلى أحمد” التي تتابع عشرات الحالات: “الخوف يدفع الضحية للانصياع للمجرم، ما يفتح الباب لمزيد من الاستغلال والانهيار النفسي”.
العنف الإلكتروني: من تهديد إلى محاولة انتحار
تقرير محلي صدر حديثًا، يكشف أن 60% من النساء السوريات واجهن شكلًا من أشكال العنف الرقمي، تتراوح بين اختراق الحسابات، التشهير، الابتزاز، وصولاً إلى المطاردة الإلكترونية. وأفادت الدراسة أن 89% من الضحايا أصبن باضطرابات نفسية، بينها الاكتئاب، العزلة، فقدان الثقة، ولوم الذات، بينما فكرت 23 منهن23 منهن في الانتحار.
الأخصائي الرقمي “سالم الخلف” يُحذّر من النقر على روابط غير معروفة، ويُوصي باستخدام أدوات فحص الروابط قبل فتحها. ويؤكد أن ضعف الوعي بالأمن الرقمي يساهم بشكل كبير في وقوع النساء ضحايا لهذا النوع من الجرائم.
عندما تُصبح مجموعات التواصل بيئة للكراهية
منصة “تلغرام”، مجموعات واتساب، وصفحات على فيسبوك تحوّلت في كثير من الأحيان إلى مساحات مفتوحة للتشهير بالنساء. “هالة” (اسم مستعار)، عاملة في منظمة مجتمع مدني، كانت ضحية لتلك المجموعات بعد نشر مقطع تمثيلي لها من تدريب توعوي. أُرفق المقطع بتعليقات مهينة وانتقادات أخلاقية، ما تسبب بطلاقها وخسارة عملها، لتدخل في حالة من العزلة والانهيار النفسي.
تقول: “لم يكن ذنبي أنني أردت الدفاع عن حقوق النساء. ومع ذلك، أصبحت هدفاً للشتائم والتشهير، وخسرت كل شيء في أيام”.
بيئة رقمية مسمومة.. وتعليقات جارحة
في حادثة أخرى، اصطدمت “رغد” بسيارة أثناء تعلمها القيادة، ليقوم أحد سكان الحي بتصوير الحادث ونشره عبر مجموعات الأحياء. المقطع أرفق بتعليقات ساخرة واتهامات تقلل من شأن النساء في القيادة والعمل العام، ما أدّى لاندلاع خلافات عائلية ومشكلات نفسية استمرت لأشهر.
تشير الإحصائيات إلى أن هذا النوع من العنف لا يقتصر على الإساءة المباشرة، بل يمتد ليؤثر على الأسر والعلاقات الاجتماعية. فالضحايا لا يُصبن فقط بالقلق أو الاكتئاب، بل غالباً ما يُجبرن على الانسحاب من الحياة العامة.
قوانين غائبة ومجتمع يلوم الضحية
غياب قوانين رادعة وتراخي منصات التواصل في مراقبة المحتوى المسيء، يجعل من الفضاء الرقمي أرضًا خصبة للعنف. تقول “رُبى عبد الله”، أخصائية نفسية: “النساء في هذه البيئة الرقمية المسمومة يعشن في خوف دائم من الفضيحة، وغالباً ما يكون الصمت طريقهن الوحيد، لكنه يزيد من حجم الضرر”.
في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، لم يعد الفضاء الإلكتروني مجرد وسيلة للتواصل أو العمل، بل أصبح ساحة جديدة للعنف النفسي والاجتماعي، تدفع ضحاياه – وغالبيتهن من النساء – إلى دوامة من الخوف والعزلة والوصم. إن قصص “سارة” و”هالة” و”رغد” ليست استثناءً، بل إنذار واضح لحاجة المجتمع إلى وعي رقمي حقيقي، وتشريعات تجرّم العنف الإلكتروني بصرامة، وآليات دعم نفسي وقانوني تضمن للضحايا الحماية والكرامة. فالعنف الرقمي، وإن كان غير مرئي، يترك جروحاً غائرة لا تندمل بالصمت، بل بالمواجهة، والتضامن، وبناء فضاء إلكتروني آمن يحترم إنسانية الجميع.